الخميس، 20 نوفمبر 2025

سيرة الشيخ محمد ضياء الدين الكردي - جزء ١

الحمد لله رب العالمين حمداً يوافى نعمه، ويكافئ مزيد فضله، كما ينبغى لجلال وجهه، وعظيم سلطانه.

والصلاة والسلام والبركات على سيدنا ومولانا محمد المبعوث رحمه للعالمين، والذى قال فيه مولاه ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ ]سورة النساء ١١٣ [، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، فاللهم اجعلنا معهم تحت لواء سيد الأولين والآخرين فى الأولى والأخرة إلى جنات النعيم... آمين، وبعد:

فبتوفيق الله وعونه أتشرف بالحديث عن شيخنا مربى الطالبين، وأستاذ العلماء العاملين، "محمد ضياء الدين" بن شيخنا قطب عصره "نجم الدين" بن أستاذ العلماء فى وقته "محمد أمين" الكردى، ناشر الطريق النقشبندي بالديار المصرية منذ قرن ونصف أو يزيد، ومازالت أنوراه فى ذريته إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين، والله لا يضيع أجر المحسنين. وحديثي عن شيخى "محمد ضياء الدين" على قدري، وأما قدره فلا يعلمه إلا مولاه، الذي علمه وصفَّاه، وربّاه بين العارفين وملأه بهداه، حتى صار شمساً هادية للسائرين، وقمر يَهْتَدِى به العلماء والمحبون، ومازالت آثاره إلى يومنا هذا على ألسنة إخوانه وتلاميذه فى كلية أصول الدين، وفى جامعة الأزهر وغيرها فى أماكن العلم فى العالمين.

لقد عرفت شيخنا "ضياء الدين" من خلال صلتي بالوالد المربى العالم العامل الولى الكامل شيخنا "نجم الدين" حيث أخذت منه الطريق سنة ١٩٦٢م، وبدأت رحلتى الروحية والعلمية مع الأسرة الكردية، ومن حولها من الدوحة العلمية، فلا ترى منهم إلا نوراً هادياً، وسبيلاً مسقيماً رائداً، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولقد رأيت منهم أجمعين السبيل الأقوم فى الأولى ليوم الدين، ومازال حديثهم يَرِنُّ فى الآذان حتى يأتينا اليقين، ونعم أجر العاملين. ولا أدرى الآن كيف أبدأ الحديث عن شيخنا "محمد ضياء الدين" ؟ لأن رحلة حياته مليئة بالجهاد فى طريق سيد الأولين والآخرين، فالقاعدة عندنا فى الطريقة النقشبندية:

" إلَهِى أَنْتَ مَقْصُودِى وَرِضَاكَ مَطْلُوبِى"

ومن هنا نبدأ، فالمقصود هو الله، والمطلوب هو رضاه، ولا شئ بعد ذلك مطلوب لنا فى الحياة، كما كان يقول شيخنا مربى الطالبين، وأستاذنا نجم الدين-رضى الله عنهم أجمعين.

مَعَ شيخنا "ضِيَاءِ الدِّين"- رحمه الله، ورضى الله عنه وأرضاه.

ولد شيخنا "ضياء" فى ٢٧/٤/١٩٣٧م ورحل الى مولاه الكريم فى ١/٢/٢٠٠١ وبذلك كانت حياته تقترب من ٦٤ أربعة وستين عاماً قضاها فى نور العلم والإيمان بين العلماء الأعلام وفى بيت الولاية والعرفان إلى أن أتاه اليقين.

ولقد عمل إماما وخطيبا ومدرسا بوزارة الأوقاف بعد تخرجه "فى مايو سنة ١٩٦٤م" من كلية أصول الدين فى ١٥/٦/١٩٦٥م وظل بهذا المنصب الكريم حتى ١/٢/١٩٧٣م حيث نقل إلى كلية أصول الدين فى هذا التاريخ مدرساً للعقيدة والفلسفة وتدرج فى هذا السُّلم العلمى أستاذ مساعدا وأستاذا من ١٣/٤/١٩٨٣م حتى أتاه اليقين.

وفى أثناء عمله بالكلية عين وكيلا لها من ٣١/٥/١٩٨٣م لمدة عامين تفرغ بعدها للعلم والعمل والطريق، وتربية المريدين إلى آخر أنفاسه فى هذه الحياة وكان مثلا طيبا لجميع العاملين والصالحين.

وقد اخذ الطريق من شيخه واخيه عبد الرحمن وصار شيخاً عاماً للطريقة النقشبندية من سنة ١٩٨٨ الى ٢٠٠١.

إذا رأيته من بعيد تَهَيَّبْتَه لما عليه من سمات العلماء الكبار، وإذا كلمته سمعت منه ما يدل على التواضع والإنكسار وهذا شأن أهل الله الصالحين، الذين عرفوا الحياة بكل ألوانها لله رب العالمين، فالدنيا فى أيديهم، وذكر الله –سبحانه- فى قلوبهم، فهم بالله آمنون، وعليه يتوكلون، لا يُؤَثّر عليهم غنى الأغنياء، وأصحاب الثروات والهيئات، لا يغرَّنَّهم سلطان لأحد من العالمين، فمن تحقق بالاتصال بمولاه، وعاش مع الله فى هذه الحياة، سلم من كل الآفات، وأمضى أيامه بين أحبابه ومريديه سعيداً موفقا للخيرات والمبرات... وهكذا كان شيخنا ضياء الدين.

وقد عُرِفَ عن شيخنا "ضياء" قدره من فتوه العلماء فى قوله القاطع، وعلمه النافع، مع المسارعة فى قضاء الحاجات والقيام بمصالح العباد من ذوى الهيئات، وعلى هذا النهج كان الجميع يُكنُّون كل إجلال وتقدير، ويجعلون كلمته فوق كل رأى ولو كان من ذى سلطان خطير، ذلك لأنه كان يقول لله، فالله –سبحانه- يرسل الحق على لسانه من نور مولاه ليس له مأرب يدعوه، أو حاجة لدنياه، فالفضل كله لله الواحد القهار، بيده –سبحانه- الخلق والأمر، وهو على كل شئ قدير، فكان شيخنا ضياء مع القوى المتين، يُوقن تماما أن الله يؤيده وناصره فى الأولى والآخرة.

لقد هيأ الله –جل جلاله- لمجموعة من علماء كلية اللغة العربية أن تشارك فى الامتحانات الشفوية لكلية البنات الأزهرية بمدينة الاسكندرية، وكنت أول مرة أذهب إلى الاسكندرية فى حياتى، حتى إننى حاولت الاعتذار بدون جدوى. وكانت الامتحانات التحريرية قائمة، وكان شيخنا ضياء فى كلية أصول الدين، فأرسل إلى واحد من العلماء عندنا فى اللغة العربية ولده المكرم أحمد، فقابلته يبحث عن الأستاذ، فقلت له متهللا :مرحبا: لماذا أنت هنا: لأنه كان طالبا فى "أصول الدين" فقال: الوالد يريد الأستاذ الدكتور على معبد –رحم الله السابقين- فقلت له: أين شيخنا "ضياء" فقال: أمام الكلية، فقلت على الفور: تفضل بالنزول، وأنا سآتى به، فنزل ليبلغ شيخنا ما كان. وقابلت الدكتور على فقلت له: شيخنا "ضياء" يريدك، لكننى وجدته يحمل أوراقا مهمة للامتحانات فقلت له: سأنزل بديلا عنك حتى تنتهى من عملك هذا وسأكون مع شيخى... فقال: تفضل وسآتيكم. فلما وصلت إلى شيخنا وجدته جالسا تحت شجرة أمام الكلية وحوله لفيف من أهل العلم، فقلت- بعد السلام الإكرام- تفضل يا شيخنا فى "مكتب" العميد أو الوكيل، فقال على الفور: هذا المكان أحسن من الجلوس بين الجدران، نحن فى ظل هذه الشجرة، وقال كلاما طيبا انفتحت له أسارير القلوب والصدور، فقلت لولده: هات الكراسى من الكلية ليجلس شيخنا ومن معه، ففعل وجلسنا، فقلت له: نحن ذاهبون إلى الاسكندرية للاختبارات الشفوية فى كلية البنات للدراسات العربية والإسلامية، فأجاب على الفور: مكانكم موجود لدينا فى "العصافرة" وهناك أماكن أخرى، وضيافتكم جاهزة، ونادى ولده أحمد قائلا: يا أحمد عمك الشيخ فتحى ومعه إخوانه سيذهبون إلى الاسكندرية للامتحانات، فإذا وصلوا وأنا هناك فالأمر سهل، وإلا فاعط مفتاح الشقة لعمك الشيخ فتحى، ثم قمت من عنده بعد انتهاء اللقاء فرحا بهذا التكريم الذى لا يكون إلا من أمثال هؤلاء الأولياء، فهم الذين قال فيهم ربنا –تبارك وتعالى- ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمْ الْبُشْرَى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾] سورة يونس الآيات ٦٢ - ٦٤ [.

ولما وصلنا -بتوفيق الله وفضله- إلى الاسكندرية، واتجهنا نحو العمارة التى فيها شيخنا وجدناه منتظرا فى الروشن "البلكونه" حتى إذا رآنا داخلين من الباب العام قبل العمارة نادانا قائلا: العمارة هنا رقم كذا، فلما سمعناه فَرِحْنا وإليه سرنا، وصعدْنا فاستقبلنا بخير استقبال مع طيب الكلام، فلما دخلنا رأينا معه بعض المريدين الصادقين، وجاء معه طباخ من المريدين محباً لشيوخه لا يتأخر عنهم لحظة فى أى مكان وزمان، وعندما جلسنا حوله مسرورين نادى الطباخ عمى حسين بدوى فأحضر المائدة، ووضع عليها من طيبات طعام الصالحين الكرام وأخذنا نطعم ومعنا شيخنا ضياء، يُضيّفُنا بطعامه وطيب كلامه، ويوزع على إخواننا ألون الطعام واللحوم بيده، عازما ومؤكدا على أهل العلم بتناول الطعام وطلب المزيد لمن أراد، ثم جاء بالحلوى وبعدها ألوان الشراب، ثم جلسنا حوله للحديث الثائر والدائر، وليس لنا –أهل العلم- إلا القرآن وحديث المصطفى- عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

بهذه المعانى الطيبة، وهذه الولاية الصادقة عاش شيخنا "ضياء" يربى مريديه، ويكرم إخوانه ومحبيه، راجيا من الله الكريم العَفْوَ والألطاف، والبركة والجود فى جميع الأوقات، على مدار الأحوال فى كل مكان وزمان، فهو معلِّم رشيد، وقائد حميد، ومُرَبًّ فريد، ما رأينا منه فى جميع العلاقات إلا الحنان، مع الفُتُوَّة والولاية على أعلى الدرجات. تراه فى كليته بين العلماء والطلاب بهذا الحال، وبين المريدين فى البلاد على أعلى درجات الوصال، فهو والدٌ للجميع، وأخ كريم للكبير، يخاطب كلاًّ بحسب حاله، وما يليق به فى مناسباته، كأنه يعيش بين الناس فى منازلهم ويعرف عائلاتهم بأحوالهم، ولذا كان يسأل كل واحد عن أهله وأولاده وما كان منهم، ويوجِّه بأنفاسه الطاهرة وأقواله الظاهرة إلى ما يُصْلِح من دنياهم وآخرتهم، معتصما بمولاه، داعيا بإخلاص لكل من رآه، أو جالسه أو قابله فى أى اتجاه، بل ربما ذكَّر مَن قابله بأمر من أمور حياته مرت عليه شهور أو سنون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.

بقلم :راجى عفو مولاه ورضاه فتحى عبد الرحمن حجازى- الأجهورى- النقشبندى عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر-اللغة العربية- القاهرة يوم الأحد ٣ من رمضان المعظم سنة ١٤٤١هـ ٢٦ من إبريل سنة ٢٠٢٠م وراق العرب- الجيزة- مصر المحروسة

مقالات ذات صلة مفيدة