إعلم وفقنى الله وإياك لما يحبه ويرضاه انه جرت سنة الله فى خلقه بان جعل لكل بنى من انبيائه أعداء من شياطين الانس يسفهون أقواله ويرمونه بالزور والبهتان مكابرة منهم وعنادا ابتلاء من الله لهم لاظهار عظيم فضلهم ببيان جميل صبرهم وقوة ثباتهم ليضاعف بذلك أجورهم ومثلهم في ذلك الابتلاء المذكور من اقتفى أثرهم واقتدي بهم من الأولياء المرشدين أنهم قد ابتلوا بتشديد النكير عليهم وتصويب سهام الاعتراض اليهم والوقوع فى أعراضهم فضلا عما يتبع ذلك من تنفير الناس عن مجالستهم ومصاحبتهم ولا يصدر مثل ذلك الاعتراض الا عمن كان قلبه مملوء بالامراض على أنه يخشى على فاعله من سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى.
بل لا نراه يصدر غالبا الا من بعض المتفقهة في المذاهب لاغراض شيطانية يريدون انفاذها وشهوات نفسانية يحاولون ايجادها وهى حب الظهور بين الناس بالعلم والفقه فيضطرهم الامر الي التفتيش عن عيوب الناس ولو نظروا الي عيوبهم لاستغنوا بذلك عن النظر الى التفتيش عن عيوب غيرهم. قال العالم الفقيه العارف المحقق قطب زمانه الشيخ عبد الغنى النابلسى الحنفى في شرح عنوان الديوان مانصه: "وقد اعتاد المتفقهة فى كل زمان على التفتيش عن عيوب الناس بحيث لا يؤولون مايجدونه مخالفا لعلمهم وان كان له ألف تأويل بل ينكرون لمقتضي علمهم ما يكون محتملا للخطأ ولو بوجه ضعيف وان كان صوابه ظاهرا بل ربما يجهل بعضهم مذهب الآخر فينكر عليه ما خالف مذهبه اهـ
أما الفقهاء أصحاب القدم الراسخ في العلوم على حسب المذاهب الأربعة فان قلوبهم متجانبة عن الدنيا مقبلة على الآخرة أحوالهم متجافية عن الحسد والحقد والكبر والرياء والسمعة والعداوة ولذلك يسلمون لأهل الاحوال من الصوفية أحوالهم ومن شدة شفقتهم على عباد الله لا يكادون يرون في أحد منكرا أصلا ولا يجدون فى الغير مفسدة قط لاشتغالهم بعيوب أنفسهم عن عيوب الناس.
قال النجم الغزي فى كتابه منبر التوحيد عن الامام الشافعي رضى الله عنه، أنه قال : "من أحب أن يفتح الله على قلبه نور الحكمة، فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء وبعض العلماء الذين ليس معهم انصاف ولا أدب اهـ. وقال خيرالدين الرملى فى الفتاوي الخيرية وحقيقة ما عليه الصوفية لاينكره الا كل نفس جاهلة غبية اهـ.
وقال الشيخ الشعرانى فى الاجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية وسمعت شيخنا شيخ الاسلام زكريا الانصاري يقول: " إياكم ان تنكروا علي أحد ممن أشهره الله بالولاية فى بلادكم فان الله لا يشهر أحدا بالولاية الا لحكمة وللاشياخ اسوة بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، قال تعالي ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ سورة الفرقان الآية٣١ فهي للاشياخ بحكم الارث.
فمما يعترض به أولئك المتفقهة وقوف بعض المريدين بين يدي الأشياخ اتفاقًا بمغلوبية الحب والادب والتواضع والاعظام لهم ولاستفادة العلوم منهم من غير أمرهم ولارضاهم بذلك مستدلين بزعمهم على هذا الانكار بقوله صلى الله عليه وسلم «من أحبَّ أن يتمثَّلَ له النَّاسُ قيامًا ، فليتبوَّأْ مقعدَه مِنَ النَّارِ» فنقول هذا الحب أمر قلبي لا اطلاع لاحد عليه حتى يحكم عليه بالظن مع وجود دلائل قطعية على ضده من نهيهم مراراً عن ذلك واظهارهم الكراهة لمن يتصف بما هنالك على أنه قال العالم المحقق خاتمة المتأخرين السفيرى فى شرح البخاري قال اسحاق بن ابراهيم الشهيدي كنت أري يحي القطان يصلى العصر ثم يستند الي أصل منارة مسجده فيقف بين يديه على بن المديني وسليمان بن داود وأحمد بن حنبل ويحبي بن معين وغيرهم يسألونه من الحديث وهم قيام على أرجلهم الي أن تحين صلاة المغرب لا يقول لواحد منهم اجلس ولا يجلس أحد منهم هيبة واعظاما اهـ.
فليت شعري ماذا يقول المنكر فى وقوف هؤلاء المجتهدين بين يدي شيخهم أكان بحب قلبى منه لذلك فيصدق عليه الحديث أم لا كما تشهد به سيرتهم الحميدة ويؤيده حسن الظن بالسلف الصالح المطلوب فى حق كل مسلم، فان اختار الشق الاول والعياذ بالله تعالي فلا كلام لنا معه اذ جواب مثله السكوت وان اختار الشق الثانى قلنا له هل سحبت هذا الحكم علي مشايخنا المسلمين العالمين العاملين المتبعين لسيرتهم ونهج سبيلهم الواضح وتجنب التعسف والقوادح.
(ومما) يعترض به أيضا جذبات المريدين واضطرابهم من قوة الواردات التي ترد عليهم فتغلبهم في الصعق والصيحة طاعنين فيهم بأنا رأينا فيهم الاسراف على أنفسهم سابقا من الذنوب أو قد نراه لاحقا بهم زاعمين أن صدور بعض الذنوب يناقض خشوع القلب، فنقول الاسراف السابق لا ينافى الجذب اللاحق لان كثيراً من الاولياء الاكابر جذبهم الواردات وهم فى المعصية وربما طعن بعضهم فى الفقراء لانهم مسرفون على أنفسهم فتراهم يطلبون فقراء فى طريق الله تعالي معصومين من الزلل والمعصية وهذا لا يكون أبداً والاسراف اللاحق اذا لم يغلب الشر على الخير بأن كان الامر بالعكس فلا يحكم به على هلاك صاحبه جزما بل من غلب خيره علي شره فهو الكامل.
وفى الحديث الشريف النبوي ما هو أبلغ من ذلك وهو الاكتفاء بالعشر من الخير فضلا عن غلبته على الشر أو كونه نصفا أو ر بما قال صلي الله عليه وسلم: « إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا » رواه الترمذي عن أبى هريرة رضي الله عنه وذكره السيوطي فى الجامع الصغير. وقد حكم صلى الله عليه وسلم بالنجاة لمن عمل بالعشر وهي بشارة عظيمة لمن سلم من الكفر والشرك الي آخر الزمان على أن المنكر لا يقف به تيار غيه على الوقوف على حالة المريد حتى يطعن على شيخه الغير المكلف بوزره مع أن الخاتمة مجهولة والعبرة بالخواتيم.
وقال الشيخ النابلسى فى شرح ديوان الشيخ عمر بنْ الفارض من بحث يتعلق بالجذبة وفي حالة شريفة وان أنكرها كثير من المتفقهة القاصرين فى هذا الزمان لبعدها عنهم من قسوة قلوبهم وهي من أثر الخشوع. فقد قال صلى الله عليه وسلم « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ » رواه الترمذي والنسائي عن عمرو بن العاص.
(ومن ذلك) انكارهم الصيحة والصعق على من يحصل له ذلك فلا وجه لهم فى انكار ذلك لأنه انما ينشأ عن كمال خشوع القلب لله سبحانه وتعالى فقد صح عن بعض الاخيار الصعق وكثرة التأوه والبكاء الشديد والاضطراب والضرب على الأرض. وأمثال ذلك قال الشيخ الشعراني فى كتابه تنبيه المغترين قرأ عمر رضى الله عنه ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ سورة التكوير الآية ١، حتى بلغ واذا الصحف نشرت فخر مغشيا عليه وصار يضرب على الارض ساعة كبيرة . وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا . وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ﴾ وكان وراءه حمران بن أعين فخرميتا . وكان ميمون بن مهران يقول سمع سلمان الفارسى قارئا يقرأ ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ سورة الحجر الآية ٤٣ . فصاح و وضع يديه على رأسه وخرج هائما لا يدري أبن يتوجه مدة ثلاثة أيام.
فتأمل يا أخي في أحوال سلفك وفى أحوال نفسك. فهل غشي عليك قط عند سماع كلام ربك خالصا أم لم يغش عليك لاخالصا ولا مرائيا الجواب لا. ما ذاك الا لقساوة قلبك فخذ حذرك وتجنب سوء الاعتراض والانكار. فقد حكى فى التبيان عن جمع انكار الصعق. قال الشهاب ابن حجر المكى والصواب عدم الانكار الاعلى من اعترف انه يفعله تصنعا .
(ومن ذلك) أن المريد فى حال جذبته لايخلو من أحد الثقين اما أن يكون باقي العقل باقي الاختيار فهي باختياره وتصنعه أو مسلوب العقل فينقض وضوءه مع انا نراه يصلى بلا تجديد للوضوء. فنقول هذه مغالطة بحصر الأمر فى شقين يلزم باختيار كل منهما محذور ولناشق ثالث لا هذا ولا ذاك لا يلزم منه محذور أصلا وهو أنه في جذبته باقي العقل مع سلب الاختيار بالمغلوبية كالمحموم بالحمي النافض فانه مع بقاء عقله مسلوب الاختيار فى الارتعاش والارتعاد وما نحن فيه من هذا القبيل فهو مع سلب الاختيار مغلوب الحركات وبقاء العقل لا يقتضى سلب الاختيار كما مثلنا.
وفى كتاب خلاصة الأثر للسيد محب الشامي رحمه الله أن الشيخ العامل السنبل سنان الرومي الصوفى المعاصر لمفتى الثقلين أبي السعود كان من أهل السماع وكان في زمنه مولى عرب وهو من كبار علماء الظاهر فأطال لسانه فى حقه وأكثر الوقيعة به فافترق العلماء اذ ذاك فرقتين لكن الفرقة الكثيرة كانت في طرف الشيخ سنبل سنان فاجتمعوا يوما بجامع السلطان محمود فدعوا الشيخ اليهم فحضر هو وأتباعه ثم قال ماأحسن جمعيتكم فما كان الداعي اليها فأجابه المولى صاري كوز وكان قاضي القسطنطينية اذ ذاك وفيه غلاظة أن أتباعك يذكرون الله بالدوران والسماع فما دليل جواز ذلك بينوه لنا والا فامتنعوا من ذلك فقال الشيخ اذا لم يكن المرء صاحب اختيار ماذا يحكم عليه شرعا فقال القاضي تزعمون أن هؤلاء يسلبون الاختيار اذا ذكروا فقال منهم من هو كذلك، فقال القاضى اذا فرضاهم كذلك فمن سلب اختياره أيذهب عقله أو يجذب فقط فقال الشيخ هؤلاء عقلهم كامل فقال يالله العجب يسلب اختيارهم ويبقي عقلهم هذا الكلام من أي مقولة هو فقال الشيخ رحمه الله تعالي هل أخذتك الى قال بلى قال لأي شىء كنت ترتعد أتري عقلك لم يكن في رأسك سلب الاختيار لا يوجب سلب العقل فتفظن ان كنت عاقلا فأفحم القاضى. ثم التفت إلى الجماعة وخاطب كلا بما أبهته فلم يجدوا بعدها جوابا.
هذا وأحوال الأولياء ومن يتعلق بهم كلها وراء طور العقل ذلك لانهم بلغوا الرتبة العليا في كمال المتابعة للحضرة المصطفوية فانصبت عليهم مياه بحار الفيض المحمدي بيد الكرم الربانى التى لا منتهي لمبادي اعطائها فأنى تدرك القاصرون من شأوهم وماذا تعرف أهل التفريط من أحوالهم ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ سورة الزمر الآية ٩ نص قاطح فيما نحن فيه ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ سورة الجاثية الآية ١٢ ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ﴾سورة الغافر الآية ٥٨.
هذه وغيرهما مما يطلع عليه فحول علم الكتاب والسنة وجهابذة علم الشريعة دلائل قاطمة علي ان لله ضنائن من عباده يختصهم بما شاء من سره فالواجب عليك أيها الموفق حبس عنان القلم وامساك جواد اللسان عن الانطلاق فى اعراض المؤمنين لاسيما أهل التشبث بهذا الشأن الرفيع نفعنا الله بهم وان تملأ قليك بالتسليم لهم ان لم تستطع العروج الى كمالاتهم ثبتنا الله وجميع الاخوان من أهل الأيمان على الجادة التي لا افراط فيها ولا تفريط وختم لنا بالحسنى وبلغنا منه فوق ما أملنا وقبلنا وتقبل منا آمين.