الأربعاء، 4 ديسمبر 2024

الشيح عثمان الكردى الطويلى قدس سره

وهو سلطان دولة العارفين . وقبلة توجه أسرار المرشدين . فضلا عن المسترشدين . أستاذ الاساتذة . وحامل لواء السادة الجهابذة . وبحر لكنه ماحوي غير الدرر. وشمس الا أنه لم يستفد من نوره الا كل قمر. ولئن كان للارشاد فلك فهو قطبه الذي عليه يدور. وشمسه الذي فيه تسير. فكم جذب بأول نظرة من نظراته روافض ونصاري من حضيض الرفض والنصرانية الي أوج الاسلام. وكم أخذ بأوائل توجهاته نفوسا طالما عكفت على نسيان خالقها حتي أوصلهم الي الجمع التام.

كنت اذا رأيته جالسا وسط أهل أرادته. خلت أن نقشبند بعث وعاد يبث أنوار طريقته. وكيف لا ولم يكن ارشاده الي الله تعالى في الاكثر الا بلسان الحال. واني هو من لسان المقال. وماذا أقول فى عارف كان مراد الحق لا مريده ومخطوب الحضرة لاخاطبها. ومطلوب العناية لاطالبها. أفردت مناقبه بالتصانيف الكبار غير أنها باللغة الفارسية . وهى بين أهلها شهيرة غير خفية . وسأورد لك منها نبذة تكون كالعنوان لما غاب منها وأرشفك رشحة من هاتيك البحار التى لا منتهي لماديها فضلا عن غايتها .

(ولد قدس سره) أواخر القرن الثانى عشر سنة خمس وتسعين ومائة وألف بطويلة بوزن مدينة وهى بلدة على مرحلتين من السليمانية، و بها نشأ فى حجر والده وكان أبوه رئيسا بتلك الناحية آمراً ناهيا مطاعاً مقبول الكلمة نافذ الحكم. وكان للشيخ أخوة يشتغلون بما يناسب منصب أبيهم، أما الشيخ فمذ ترعرع شابا حبب إليه الخمول وزين له التجرد فكان يختلف إلى بغداد كثيراً متجرداً وأكثر ما يكون عند قبر الشيخ عبد القادر قدس سره ولكونه رضى الله عنه فطر علي هذا الحال من التقشف وعدم المبالاة بالدنيا وكمال الاعراض عن زخارفها. كان أبوه لا يكترث بشأنه ولا يبالي به وكان على هذا الحال حتى قدم مولانا خالد السلمانية . حاملا أعباء الخلافة النقشبندية .

فذهب بالاشارة الالهية في أيامه الاولي الي بلدة والده (طويلة) فاستقبله وأنزله منزلته ثم سأله أن يحضر له أولاده. فلما مثلوا بين يديه قدس سره العزيز، قال له : لم يبق لك من الولد غير هؤلاء، قال: ولد خامل لاحاجة لك الي رؤيته، فقال: أليس هو عثمان، قال بلى، قال: ماجئت إلا لأجل تربيته واستحثه الشيخ علي أن يحضره، فاستقدمه أبوه، وكان اذ ذاك بغداد، وسلمه لحضرة الشيخ فتقبله قبولا حبسنا، وتحول به من طويلة الى (بيارة) وأمره أن يتفرغ في مسجد من مساجدها للذكر والفكر. فأقبل بكنه همته على امتثال أمره، وجعل الاستاذ يلحظه آنا فآنا بعين سره، حتي أتم الله علي يده بدره وأكمل بفضل عنايته أمره .

وكانت بدايته رضى الله عنه على قدر نهايته وكانت نهاية التهايات. ترك الكل وراء ظهره ولم بيال بمنصب أبيه، ولم يلتفت الي ما بيديه من الأموال . فاكتفي من اللباس بما يقى الحر والبرد وتحري من الاطعمة الحلال وهو كما لايخفي عزيز، فكان يطيل الجوع حتى اذا اشتد به دفع ضرورته بالحشائش والنباتات التى لم يستنبتها الآدميون وأمسك لسانه الا عما أوجبه الشرع أن يطلقه فيه، وكان اذا رآه الرائي يظن به عجزًا عن الكلام خلقيا . أوخرما فطريا. وجعل يستغرق ليله ونهاره فى الاشغال الخالدية النقشبندية حتي كانت كل أوقاته أربعينيات . ولم يسمح لنفسه ولا طرفة بالغفلات . وأخذت يد العناية الالهية بين الهمة الخالدية . تحرق له حجب الظلمات. وتكشف له عن ملكوت الأرض والسوات . حتى لقد سمعت عن بعض الثقات الذين تشرفوا بصحبته . وكانوا من السابقين لخدمة سدته .

قال: سمعت الشيخ يقول كنت وأنا مشتغل بالنفى والاثبات ينكشف لى مما تحت الثري الى العرش الاعلى عند النطق بكلمة (لا) فأنظر اليه بنظر الفناء وأجعله داخلا تحت النفى ولا تسأل عما يتجلى عند الاثبات ولم يثتنى شيء عن طلبه عز وجل .

ولا عجب، فمن أحرقت بدايته، أشرقت نهايته، لاسيما وهو من رجال طريق (بدايتها نهاية غيرها) هذا ولم يزل دائبا مجدا حتى أفرغت عليه حلل التكميل وأمره الاستاذ رضى الله عنه أن يوجه همته العلية الى انقاذ المريدين وأجازه بالارشاد والتوجه اجازة عامة، فتقبل بكال الادب والضراعة اجازته ثم لم تصرفه الاجازة الي الخلق بل كان معها مقبلا على شأنه غير مضيع لانه متهما لنفسه بالقصور عن بلوغ تلك القصور. و ظانا أن مثله ليس أهلا للجري مع فرسان هذا الشأن حتى ورد عليه اذن الهى لا يستطيع معه القرار الا إلى تعليم الخلق من أنفسهم إلي الله الفرار.

ولما تشرف الارشاد باستوائه على عرشه، جعل رضى الله عنه يتفرس في الناس فكل من رآءه أهلا للدخاول فى هاتيك الحضرات تذكره في خلوته ليلا فلا وربك لا يصبح هذا الشخص إلا وهو مراد. ولا يمسي الا وقد ألقى الي حضرة الشيخ القياد. فيفرغ عليه هو حلل الجذبة . ولا يزال يدنيه حتى يجمعه وربه. فيا لله كم أحيي من موات نفوس أبية. بما سقاها من كؤوس السلاف الخالدية . ومتى رأى للمريد اخلاصا خيره بين أن يرجع لأهله ويسافر فى وطنه لربه وبين أن يقيم معه على أن يصبر على أكل النيانات. وترك المشتبهات فضلا عن المحظورات . فكان بيمن همته. وقوة نظرته . يصبر المريد معه على خشونة العيش وتحمل المثاق فى مرضاة الحق.

فلما قضي والده نحبه تحول بمريديه إلى طويلة مسقط رأسه وبنى على طرفها خانقاه عظيمة متسعة احتاط في وجه بنائها على عادته فعكف فيها بالمريدين على الذكر والفكر، وأقبلت الناس من أطراف العراق تفد إليه وهو يربي الكل بنظراته وتزايد الامداد حتى كنت تري عنده كل يوم ألف وارد وألف صادر، ثم لم يزده اقبال الخلق عليه الا اقبالا على خالقه وزهدا فى دنياه أستغفر الله ومن قدر الدنيا حتي بزهد فيها مثل هذا العارف بل كان كل يوم من أيامه مغبوطا وبعناية الحق على ممر الآنات ملحوظا، ثم مابرح جاريًا على موجب ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ سورة النحل الآية ١٢٥ وسائراً على مقتضي « ياداود اذا رأيت لي طاليا فكن له خادماً » حتى فتح الله به آذانا صما وعيونا عميا وقلوبا غلفا بحكم الوراثة والتبعية لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وحتى فتح للعلوم اللدنية منهذا في قلوب الاميين من اتباعه فضلا عن علمائهم.

وكان له قدس سره أرسخ قدم فى مقام المراقبة، ولهذا كان يغلب عليه السكوت واطراق الرأس، فاذا رفع رأسه إلى الحاضرين صاح أكثرهم من كثرة ما يلقى على بواطنهم من الانوار وقت ذلك الرفع، وجمله الله تعالي بجلال عظيم فلم يكن يستطاع الجلوس بين يديه بل أکثر الحاضرين وقوف بین مستغرق مع السكوت وغائب مع الجذبة.

وكان كثير ممن يفد على الشيخ لتعلم الطريقة العلية تفاض عليه الجذبة بمجرد وقوع بصره على حضرة الشيخ قدس سره فيلبث فيها زمنا طويلا قبل التلقين. ولما انتشر صيته فى الآفاق . وطار شذا ارشاده فى العراق. جرت فيه سنة الله تعالى التي خلت فى الصديقين من قبله فوشي به أهل الغباوة من المنكرين ووصفوه بما لا يليق عند علامة العراق الشيخ عبد النبي الرواندزى نسبة الى رواندز براء فواو مفتوحتين فألف فنون ساكنة فدال مكسورة فزاى قرية على ثلاث مراحل تقريبا من طويلة وكان عالما مشهورا تقصده طلبة العلم للتلقى عنه من كل مكان مقبول الكلمة عند الحكام معظما وقوراً، فكان اذا فقد طالب علم من درسه يسأل عنه فيقول له من لادين له من أهل الحسد انه ذهب الى ضال مضل من شيوخ العراق يعنون حضرة الاستاذ قدس سره فبعث الشيخ المذكور الى الوالي أن يرسل له عسكراً ليذهب بهم الي القبض على الشيخ وحسن له ذلك جداً فلبي طلبه وأرسل إليه العسكر فقام بهم الى طويلة ومعه بعض الطلبة حتي اذا كان بقربها.

قال للعسكر على رسلكم حتي اذهب أولا فأتعرف حاله فان احتجت اليكم أرسلت فذهب ومعه الطلبة، فلما وصلوا الي الشيخ فاذا الناس وقوف بين يديه كما وصفنا والشيخ مطرق برأسه، فسلم على الشيخ فلم يزد علي ان رد عليه السلام ونظر الى الطلبة فأمرهم بالجلوس وجعل يحدثهم كما هي عادته مع الوافدين عليه بشؤونهم الماضية وأحوالهم المستقبلة فسعدوا في الحال بمحبته، فقضى الشيخ عبد النبي ما رأي عجبا ولم يزدد بذلك على الشيخ الا غضبا.

فلما كان وقت المغرب تركه الشيخ ودخل منزله فجلس مبهوتا متحيرا ثم جيء بالطعام للمريدين فاعطوه كأحدهم فرمى به من شدة غضبه وقام يذهب ويجيء يجنب عين هناك يتوضأ منها حتي كاد وقت المغرب يذهب فنظر اليه خليفة من خلفاء الشيخ يسمي (الشيخ على الكبير) وكان أميا وقال له مالك هكذا كالحمار الذى لا صاحب له فجعل يستعيد منه هذه الكلمة ويقول انى أشعر عند سماعها بظلمات تنفصل عنى وأنوار تدخل فى باطنى فجعل يعيدها له ويقول له أنا جاهل أمى وأنت عالم كبير. فهات ما استندت عليه فى الانكار على الشيخ حتى أريك الحق من الباطل استندت الي قول ابن حجر في صحيفة كذا من كتاب كذا لكنك غفلت عن قوله فى الصحيفة الفلانية كذا وكذا فأخذه العجب من علمه مع أميته وجعل سحاب الغين ينقشع عن عين بصيرته حتي أصبح وهو من كبار المخلصين لحضرة الشيخ قدس سره فأحال الطلبة الي غيره من المدرسين وأرسل للعسكر أن انصرفو فانا كنا مخطئين وأقام هو لتعلم الطريقة وسلوكها وحظى من الشيخ بكمال الالتفات ولم يبرح من طويلة حتي أتم الله عليه ببركة الشيخ نعمة الوصول وصار من الراشدين المرشدين ذوي الخلفاء الكثيرة والكرامات الشهيرة ولحضرة الاستاذ كرامات لاتحصى.

(منها) ما سبق ومنها ما نقل عن بعض أصحابه أنه ترافع اليه رضى الله عنه شخصان يشتكى أحدهما من الآ خر، فقال الشيخ لظالم منهما بشدة وزجر أخف فقط في الحال ميتا.

(ومنها) ما حدثنى به بعض ثقات الأكراد أنه قال رأيت ببلدنا غريبين تري سيما الصلاح عليهما فاستضفتهما فأجابانى فسألتهما بعد القري من أين والي أين فاخبراني انهما مسكوفيا الجنس أكرمهما اللّه بالاسلام وهما يقصدان الحج فسألتهما عن سبب اسلامها فذكرا أنهما كانا ببستان لما في أرض المسكوف فاذا شيخ ذولحية كثة عليه هيبة ووقار فلما نظراه ارتاعا منه وفرا ثم عادا فى اليوم الثالث، فاذا الشيخ الذي رأياه فعاودا الفرار ثم رجعا بعد ثلاثة أيامٌّ فوجداه كذلك وقال لهما (أنا عثمان الطويلى) هلم معي الي طويلة بمكان كذا ووصفها لنا فأردنا أن نتبعه فلم تره فلم يقر لتا قرار حتي وصلنا الى الشيخ فلما رآنا سألنا من أين فقلنا أنت تعلم بحالنا فقال نعم ثم علمنا الاسلام وشرائعه. وأمرنا بالحج فى هذا العام وها نحن متوجهان كما أمرنا قدس سره .

(ومنها) ماذاع وشاع أنه لايوافيه أحد ممن نأي أو قرب الاناداه باسمه واسم أيه قبل أن يسأله عنهما وذكر له مامضي من أحواله على ما هو عليه وأخبره بما يقع له فى المستقبل فيكون كما أخبر » توفى قدس سره ببلده سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف وسنه ثمان وثمانون سنة ، وله خلفاء كثيرون كلهم على عرش المعرفة مستوون أجلهم قدراً. وأظهرهم سراً ولده القطب الارشد. والغوث الامجد

مقالات ذات صلة مفيدة