اعلم يا أخي فتح الله عين بصيرتك وأغلق عنك باب الاعتراض على أوليائه ان الصوفية أهل خبرة تامة بشرع الله عز وجل وذو وعلم كامل بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وكلهم على نورمن ربهم، فكل ماوضعوه من الآداب المريدين كتغميض العين وقت الذكر واغلاق الابواب عند الاجتماع لمراقبة فينبغي أن تتلقاه بالقبول وتعلم أنهم اقتبسوه من مصباح السنة على صاحبها الصلاة والسلام .
فان رأيت أدبا من آدابهم ولم تعرف مأخذه من السنة فلا ينبغي أن تطيل لسانك بالاعتراض عليهم ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ سورة يوسف الآية ٧٦. والاعتراض على أهل الله تعالى سيف من تناوله قتل به ولحونهم سم قاتل لساعته من تناول منه شيئاً هلك أوقته نسأل الله العافية والسلامة من ذلك. اذا علمت هذا فاعلم ان السادة النقشيندية أجمعوا على أن من الآداب الا كيدة المهمة للمريدين اذا اجتمعوا للذكر والمراقبة أن يغلقوا الباب وأن لا يكون معهم من ليس منهم ولخلفاء مأخذ هذا الادب على من ليس له قدم في الشريعة أردنا أن نشير فى هذا الفصل الي بيانه.
فمن أسانيدهم في ذلك ما روي الامام أحمد باسناد حسن والطبرانى وغيرهما عن يعلى بن شداد بن أوس قال حدثنى أبى وَعَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ قَالَ : « حَدَّثَنِي أَبِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ - وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ حَاضِرٌ يُصَدِّقُهُ - قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : " هَلْ فِيكُمْ غَرِيبٌ ؟ " - يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ - قُلْنَا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَمَرَ بِغَلْقِ الْبَابِ وَقَالَ : " ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ وَقُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . فَرَفَعْنَا أَيْدِينَا سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ بَعَثْتَنِي بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ ، وَأَمَرْتَنِي بِهَا ، وَوَعَدْتَنِي عَلَيْهَا الْجَنَّةَ ، وَإِنَّكَ لَا تُخَلِفُ الْمِيعَادَ " . ثُمَّ قَالَ : " أَلَا أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ » فان قلت ان اغلاق الباب لم يكن عن بعض الاصحاب بل كان عن أهل الكتاب كما هو صريح هذا الحديث وأين هو مما نحن فيه.
(قلنا) ان اغلاق الباب منه صلى الله عليه وسلم حكم من الأحكام المعقولة المعنى والحكم يدور معناه أي علته وجوداً وعدما وكم من حكم خاص في الشريعة بحسب الظاهر استفاد التعميم مما فيه من المعنى والمعنى هذا عدم الصلاحية لسر هذا المجلس والا فالنبي صلي الله عليه وسلم مأمور بالظهور للمؤمن والكافر بقوله تعالى ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ سورة الحجر الآية ٩٤ . فلما خص هذا المجلس بغلق الباب عن بعض ولم يكن الكفر مانعا من حضور مجلسه الشريف علم أن المقتضى للاغلاق هو عدم الصلاحية لسر هذا المجلس ومتى وجد هذا المعنى في قوم ولو من المؤمنين سري فيهم هذا الحكم الشريف.
ألا تري أن الله قال ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ﴾ سورة الأنعام الآية ١٥٢، فنص على تحريم الاكل ولما كان المعنى فيه الاتلاف سري هذا الحكم فى كل ما يؤدي الي اتلاف ماله وحكم العلماء بتحريم حرقه ورميه فى البحر ونحوهما وأجمع على ذلك المجتهدون رضي الله عنهم وكذلك نظر أهل البصائر بنور الفراسة الالهي المكتسب من كمال المتابعة لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم الي سبب الاغلاق فرأوه ماذكرنا فحكموا بأن كل مجلس فيه سر لا يصلح الاطلاع عليه الاجنبى منه أغلق الباب عنه وحكمهم مقبول لدى أهل الانصاف من الفحول.
(فان قلت) كل مؤمن من المؤمنين بمقتضى إيمانه يليق أن يطلع على كل سر من الاسرار ( قلنا) هيهات ثم هيهات. فقد روى البخارى عن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ ». يشير الي حلقه . وكان حذيفة رضى الله عنه ممن اختصهم رسول الله صلي الله عليه وسلم ببعض الاسرار حتي كان عمر رضى الله عنه يرجع إليه في بعض أموره . واختص النبي صلى الله عليه وسلم عليا كذلك فاذا كانت الاصحاب الكرام اختص النبي صلى الله عليه وسلم بالسر منهم بعضا دون بعض وهم هم فماظنك بغيرهم من الطبقات اذا تبين هذا.
فاعلم أن الاسرار الالهية التى تفاض في مجلس سالك الطريقة النقشبندية العلية لا يصلح للكشف عن وجوه مخدراتتها الا من دخل فى طريقهم وسار بسيرهم وكان من مريديهم و ﴿ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ﴾. فلما رأي أهلها هذا الفضل الالهى عليهم وعلى أتباعهم وعلموا سر ذلك الحديث السابق أرشدوا الى الدخول فى هذه الطريقة وبينوا أقر بيتها فمن أجابهم كان من أهل مجلس أسرارهم ومن لم يجبهم جالسوه في المجالس العامة قضاء لحق اخوة الايمان وأغلقوا عنه الباب فى مجالسهم الخاصة صونا لحقوق سر الرحمن وعملا باشارة حديث سيد ولد عدنان.
(فان قلت) اذا جلس فى مجلسهم الخاص من ليس من طريقهم فريما انتفع بهم وفى ذلك جلب مصلحة فلماذا يمتنعون مته وهم أهل الشفقة والرحمة (قلنا) صدقت ولكن المرء عدو ما جهل وأنكار الاسرار أسرع الى قلوب الاكثرين من السيل الي الانحدار يعرف ذلك من له خبرة بأهل كل زمان ومتى حصل الانكار على أهل الاسرار غضب الجبار ونزل المقت على المنكر من ساعته وفي ذلك من المفاسد مالا يحصى ومن الفوائد المقررة عند العلماء الاعلام ان درء المفاسد مقدم على جلب المصالح فكان لهم الحق رضى الله عنهم في المنع مطلقا جمعا بين الحديث الشريف وهذه القاعدة . ومن كان من أهل التوفيق فأقل من هذا البيان يكفيه. ومن كتب الله على جبهته الخسران. ورمي من الحق بسهم الحرمان. فلا يكتفى ولا بألف ألف برهان. والامساك عن الكلام مع هذا المخذول أولى بالعبد الموفق وأحرى و كفانا على ذلك دليلا قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ سورة النجم الآية ٢٩.
اللهم لاترمنا بسهام مقتك ورض عنا قلوب خاصتك واجعلنا لأحوالهم من المسلمين ولاسرارهم من الذائقين .