الثلاثاء، 3 ديسمبر 2024

مولانا الاستاذ الا كبر الشيخ عمر قدس سره

وهو رحمة عظمى أحدتها يد العناية الى العالم فتلقاها بالقبول . ودرة كبرى تزين بها تاج أهل المعرفة والوصول . عارف تبوء من المعرفة أعلى غرفها. وولى فاز من الولاية بأبهج طرفها. انسان عين الارشاد المحمدي . و مهبط صيب الامداد الاحمدي . سيد ألقت اليه سلطنة الاولياء مقاليدها. وجهبذما أحق قطبية الاصغاء أن تجعله واسطة عقد جيدها . وكيف لا وقد كانت النظرة الأولى من نظراته تحيل فى الحال أردأ معدن ذهبا صرفا. وتقلب من حينها أشد القلوب سواداً فتجعله أشد بياضا من اللبن أو أصفى الى همم تزول لها الجبال الراسيات وأنفاس تنهل بها امطار الرحمات .

ولاغرو فهو علم هداية ما أرفعه. وبحر كرامات ما أوسعه . فكم تشرف على يديه بمعانقة مخدرات المعارف من لم يكونوا لها قبل اكفاء. وكم أخرج بيمن همته من ظلمات الكفر من صاروا بعد فى الناس اضواء. وكم أفاض نور الحضور على قلوب ماعرفت الا الغفلات. وكم أجلس على عرش المحبة الذاتية أنفسا طال رقادها على أرض الجفوات.

وبالجملة فهو فرع ربا على كثير من أصوله السابقين. وثمرة اجتمع فيها ماتفرق من محاسن ثمار البساتين

ليس على الله بمستنكر   ❈   أن يجمع العالم فى واحد

فـ لله هو من زجاجة عكست علي العالم شعاع سبحات الذات الاقدس وأوصلت الي مشام الارواح شذا ذلك الحمى الارفع الانفس . اشترك بيان الخطباء وبنان الكتاب فى العجز عن احصاء بعض مناقبه . وكيف لا وقد كان باطنه الشريف مخزن أسرار الحق ومهبط مواهبه ،وما ذا تدرك العقول من مخطوب العناية الالهية . ومخطوف يد الجذبات الذاتية. لكن لا بأس من الالماع الى بعض مآ ثره. والاشارة الى قليل من مفاخره.

فان بناء (كتابنا هذا) على الاختصار (ولد قدس سره) بطويلة بلدة والده رضي الله عنهما سنة خمس وخمسين ومائتين وألف ونشأ فى حجر والده يتقلب على مهد الولاية ويرتضع ثدي المعرفة وكانت أمارات العناية عليه فى صغره لائحة . واشراط الولاية فيه قبل بلوغه واضحة . آتاه الله من الذكاء ماحصل به العلوم فى مدة قليلة حتى كان فيها بارعا وفطر الله قلبه على الجمعية والحضور فكانت أكثر أوقات فراغه تمضى على الجمعية .

ولما رآي والده كمال استعداده أقبل عليه بيمن همته يربيه التربية الروحانية ولا تسأل عن تربية الاصل بفرعه ، ثم أمره أن يتحول الي قرية (بيارة/byara) ويقيم بها ويشتغل فيها بالذكر والمجاهدات وهي علي ساعة من (طويلة/twella) ، فأقام رضي الله عنه فيها حسبما أشار اليه والده العارف قدس الله سره وهو يستخرج نضار نفسه المباركة بنار المجاهدات المحرقة فكان يختلف الي (طويلة) مرارا عديدة يحمل الحطب على ظهره المبارك للمريدين من بيارة الي طويلة وكان ذلك يشق على خدمة العتبة العلية العثمانية فيخبرون الاستاذ والده بذلك .

فيقول دعوه أن ذلك ينفعه وأن المرء لايخدم حتى يكون خادما ومن أراد أن يرتفع فليتواضع وما زال مشعرا ساعده في الذكر والفكر حتى كان يوضع الثلج على ظهره فيذوب فى الحال من شدة حرارة ذ كره واستمرت مطايا العناية الالهية تقطع به مفاوز الطريق ورسل الكفالة الربانية تنشله من أوحال التعويق . وسقاة الهمم النقشبندية يدبرون عليه أحلى رحيق . حتى سبق أهل السبق وفاز بالقدح المعلى . من بين طلاب الجناب الاعلى.

ولما رأي والده العارف قدس الله سره وصوله إلي نهاية النهاية وبلوغه الي الغاية التى ما فوقها غاية أجاز له بالارشاد والتوجه اجازة عامة مطلقة و أمره أن يوجه شمس همته الى أرض قلوب أهل الاستعداد فلم يطق ذلك في حياة والده رضى الله عنه واستمر دائبا على الاستغراق فى الاحدية . وذائبا فى نسبة الاستهلاك بالحضرة القدوسية. وغلب عليه التواضع فكان لا يسمح لا حد بتقبيل يمينه المباركة .

وكان اذا حضر لزيارة والده ربما وقف على قدميه من الصبح الى الظهر لا تسكن عبراته والشيخ يسارقه النظر ويمده من نور الله بما لا تحيط به الفكر. وكانت له مع ذلك فى حياة والده خوارق عجيبة وتصرفات غريبة ، لكنه لم ينسبها الي نفسه بل يحيلها على همة والده ونفسه.

فلما لحق والده بالرفيق الاعلى أجمع الخلفاء على أن يقيموه مقامه فأبى وسلم مسند الارشاد لأخيه الأكبر العارف الشيخ محمد بهاء الدين قلبث أياما قليلة ، ثم لحق بوالده رضوان الله عليهما ، فتقدم اليه الخلفاء ثانيا بالتضرع والالحاح في أن يقوم مقام والده العزيز فقبل علي الكره منه واختار بيارة موطنا لارشاده ، ولم يذهب الي طويلة رعاية لكمال الادب مع والده الماجد قدس سرهما. ولما سعد العالم بإلتفات همته العلية فاضت بركاته فى العراق. وسارت كراماته سير الشمس فى الآفاق.

فكان لا يقع بصره على رافضى إلا رفض الرفض ورجع إلى الاعتدال وصرخ صراخ الجذية في الحال . ولا يقابله فى طريقه نصرانى الا اسعد بشرف الاسلام لوقته قبل أن يفاتحه بكلام أو يبدأه بخطاب حتي لم يسمع فى العراق بمثله عارفا هدي الله على يديه هذا العدد من الخلق.

وسافر رضي الله عنه مرة و كنت فى شرف صحبته في تلك السفرة التي سافرها فمر بناعلى بلدةأكثر أهلها روافض تنزل وأمرنا بالنزول قريبا منها فغلب الخوف علينا من شر أهل هذه البلدة فإنهم لا محالة يعرفوننا بالأذان . فلما كان وقت المغرب أمر حضرة الاستاذ بالأذان جهرا ولا تستطاع مخالفته فأذن المؤذن وصلينا وجلس الشيخ كعادته مراقبا مطرقا مغمضا عينيه ،

فبينما نحن كذلك اذا أقبل بعض روافض أهل البلدة يريد الشيخ بعصا في يده فرفع رأسه وأشار الينا أن دعوه فما زال يمشى حتى اذا كان بين يدي الشيخ رضى الله عنه أخذ منه العصا فأعطاها له بدون توقف ، ثم حل الاستاذ منديلا كان فى وسطه وفتله بيده الكريمة ، وقال : ابسط كفك أضربك بهذا المنديل عشرا وأبسط كفى فتضربنى به مثلها ففعلا وجعلنا نعجب من هذا الأمر ، تم قال : الشيخ خذه فاضرب به من لقيت فما ولي وجهه عن الشيخ حتي سمعناه يصيح صياح الجذبة ، ولا أصبحنا حتى خرج الروافض الا قليلا إلى حضرة الاستاذ بين صارخ وباك وتائب يتضرعون الى الشيخ فى النزول عندهم فأجاب طلبهم وأسس هناك خانقاه عظيمة وما فارقهم حتى جعل فيهم معلما للشريعة والطريقة واستقام أمرهم حتي الآن.

ومن عجائب أحواله وكلها عجائب أنه سافر مرة الى بغداد وكنت متشرفا بصحبته ومعه عدد كثير من الخلفاء والمريدين فكان لا يمر بلد الا اهتدي فيها من شاء الله ممن لا أحصيهم كثرة . فلما كان قريبا من بغداد أمر من معه أن يذهبوا فى صحبة مولانا الشيخ محمد القراداغي أحد خلفاء والده الي خانقاه مولانا خالد التى ببغداد وأمرهم أن يكتموا خبر قدومه ، وقال : أنى أريد أن أستريح من العالم مرة ولا تبرحوا عن الخانقاه حتي أبعث اليكم. وأمر خازن نفقته أن يعطينى الدراهم و أمرني أن أكون في خدمته فقط فالتزموا اشارته وفزت بحمد الله فى تلك المدة بخدمته وشاهدت منه فيها مالا أحصى من العجائب.

(منها) أن الشيخ كان مرة في المراقبة (فى قبة الشيخ عبد القادر) فذهبت فى ناحية من نواحيها ، فاذا رجل مستقبل القبلة اعجبنى مارأيت عليه من سيما الصلاح والقوي رأيته مشتغلاً بالذكر اللسانى وعليه هيئة الحضور مع الله تعالي لا يتكلم مع أحد والناس يقبلون يده و ينصرفون فسألت بعض الناس عن اسمه ومدة اقامته هنا وخلاصة أمره فقالوا انه يقال له الشيخ خالد وهو ههنا من نحو سبع سنين مقيم على ما ترى من الذ كر لا يقوم الا للصلاة أو الوضوء ولا يتوضأ فى كل ثلاثة أيام الا مرة ليلا ثم يعود الي حاله وقد سخر الله له بعض أهل الخير يبعث اليه عند الغروب كل يوم رغيفا وشيئاً من اللبن فريما لايأكل منه ويطوي وربما يتناول منه لقيمات هذا ديدنه منذ جاء الي الآن فأخذنى عجب عظيم وهجس في نفسى من غير استقرار (أى العارفين أجل) شيخنا أم هذا. فما لبثت ان أخذتنى سنة من النوم فرأيت غرفة ما رأي الراءون أحسن منها ، وفيها سرير عال عليه أسد عظيم مهيب جدا ورأيت تحت السرير فأَراً صغيرا يذهب ويجيء لا يجد له منفذا فامتلأت عجبا منه وجعلت أقول مالك ولمحل الاسود و أين مقامك من هذا الاسد . ثم التفت خارج الغرفة فرأيت حضرة أخينا فى الله عز وجل وأحد اجلاء خلفاء شيخنا السيد طاهرا واقفا خارجها على غاية من الأدب والحشمة وكان بينى وينه صداقة تامة ، فعلت أناديه لاريه هذا الفأر وأمره العجيب وجعل هو لا يلتفت الي فتأثرت من أعراضه عنى مع كمال صداقتي معه ، ثم التفت إلي مغضبا ، وقال ألا تدري من هذ الأسد أنه حضرة استاذنا قدس سره وهذا الفأر الذى تراه هو ذلك الرجل الذي أعجبت بصلاحه وهجس فى نفسك من شأنه ما هجس .

ثم انتبهت وقد أخذ في حياء عظيم من هذا الخاطر ثم لما قام الاستاذ من جلسته هذه نظر الى وقال : ماذا رأيت اليوم؟، فسكت حياء وخجلا فلما رأي كمال تأثري وشدة سكوني ، قال أنا ذلك الفأر والشيخ خالد هو ذلك الاسد فبهرني مكاشفته وتواضعه ثم قال رضى الله عنه ليرينى الحق حقا منذ خرجنا من بيارة كم تاب من فاسق ، وكم رجع إلى الله تعالي من رافضى على يدينا ، ولله المنة أما هذا فعله أن كان مقبولا ليس قاصراً الا على نفسه وأين الهادون المسترشدون من المهديين فقط .

(ومنها) انى رأيته أكثر من ثلاثين يوما لا يتغذي بغير المراقبة والذكر وكان فيها يصلى العشاء ، ثم يقعد على ركبتيه مستغرقا فى النسبة العلية لا يرفع رأسه الا لصلاة الفجر ، فاذا صلاه قعد كذلك إلى الضحوة الكبرى ثم يقوم فيتوضأ فاذا ركم ركتي الوضوء عاد الي حاله الأولى وكان يتحرى الصف الاول فى الصلاة فاذا صلى في الجماعة جلس جلسته لايقوم منها الا لصلاة أخري . هكذا كان ديدنه فى هذه المدة وما كان يتكلم الا قليلا يرفع رأسه أحياناً ، فيقول اذهب الى مكان كذا تجد شخصاً صفته كذا فأعطه من الدراهم كذا فأذهب وأجيء وهو كما هو فى المراقبة ولم يزل يأمرني بالصرف حتى نقد ماعندي من النفقة .

و كان كلما أوشك أن يعرفه أهل المسجد الذي أقام به تحول منه إلى غيره. فلما كان فى آخر المدة التى أراد اختفاءها رفع رأسه بعد الظهر من المراقبة، ووصف لي مسجداً وقال إذهب اليه فناد منه الشيخ محمداً سعيداً فذهبت كما أمر، فلما رأيته اذا هو من العلماء المشهورين فبلغته رسالة الشيخ فقال مالي ولشيوخ الطريقة . وسمعت منه مالا أحب فلما رجعت الي الشيخ رفع رأسه وقال ليطب قلبك فسيأنى ان شاء الله تعالي فلما كان بعد المغرب رقي الاستاذ الي سطح ذلك المسجد وقال انتظر من ذهبت اليه مهنا فما لبثت أن جاء ومعه بعض الطلبة فصعدت بهم الي الاستاذ فسلموا عليه فلم يزدهم على رد السلام شيئاً وكنت أري الغيظ في وجوههم من عدم احتفاء الشيخ بهم حتى اذا صلوا العشاء أمرهم بالانصراف،

ثم جاءوا كذلك في الليلة الثانية فلما صلوا العشاء أسر الاستاذ الى الشيخ محمد أن يأتيه فى اليلة التالية وحده فعل وفيها أفاض الشيخ عليه ما أفاض، فكان قائما على قدميه يبكى حتى طلع الفجر ثم انصرف وكأنما نادي مناد في البلدة بحضور الاستاذ فذهب الاستاذ من يومه ذلك الي مسجد الشيخ محمد سعيد واجتمع عليه لتعلم الطريقة من أهل العلم وغيرهم خلق كثير وأجازه الشيخ بأعمال الختم وحضر الاستاذ الختم بنفسه فى هذه الليلة ولم يتوجه الا الى شخص واحد فحصل لهذا الشخص أثر عظيم وجذب قوي فلما أوقد السراج حصل لأ كثرهم عجب وأخلاص تام فى حضرة الاستاذ فسألتهم عن سبب تعجبهم، فقالوا أن هذا الشخص الذي حصل له ما ترى كان فى الظاهر سنيا وفى حقيقة الامر رافضيا.

هذا وما زالت شمس أرشاد الاستاذ تزهو يوما فيوما وتتواتر به الامدادات على كافة الطبقات وقتا فوقتا ويؤيده الحق بوارق خوارق العادات حينا فحينا حتى أصبح كعبة العارفين . ومحط رجال الواصلين. ومتوجه آمال القاصدين . ورجع خلفاء والده كلهم إليه فى الاصدار والإيراد . وسخر الله عز وجل له رقاب العباد . وملوك البلاد . وعاد العراق أنضر ما كانت فى زمن والده بل أصبحت الآ فاق أنور ما تكون بعوائد فوائده . وقصد بالرحلة من كل مكان . وتوافد لزيارة سدته العلية أعيان العلماء وعلماء الاعيان . وهو يمد كلا على حسبه. ويمنحه ما يليق به.

وبالجملة فقد كان وارثا محمديا. وغوثا فردا صمدانيا. يكتب بالمكتوب الي بعض خلفائه فى الجهات فيفزع أهل تلك الجهة الي استنساخه يطلبه الاديب الفصاحة عبارته . والعالم الفزارة مادته . والصوفى لدقة اشارته. وغالب الناس لاستجلاب بركته. وكان رضى الله عنه على غاية من الكرم وسماحة النفس وكمال الايثار. كنا فى سفرة معه فى أيام شديدة البرد فمر بفقير يرتعد من شد البرد فطرح عليه عباءته ومر بآخر كذلك فألقى عليه جبته. ثم مر بثالث كذلك فخلع له القباء وألقاه عليه ولم يكن يدخر شيئاً لنفسه ترد عليه الهداية الكثيرة من الجهات. فيفرقها بين المريدين وغيرهم من ذوي الحاجات.

ومن خوارقه ما كان سببا لصحبتي لخضرته وذلك أنى رأيت ذاته المباركة وأنا ببلدي (مدينة أربل) ليالي متوالية قبل أن أعرفه يذكر لي اسمه الشريف وبلده وطريقته ويستحتى على الحضور لتعلمها فأصبحت وقد اعترانى بذاته هيام . وبطريقته حب قلم . وكان أبى قادرى المشرب فما رأي ما بى أنكر أمري وجعلت جذباته القوية تأخذ باطنى حتى تيسر لي الوصول لخضرته. وتشرفت بسعادة صحبته.

ولقد رأيت فيها من أسرار الشيخ ما لا يسطر في كتاب ولا يدخل تحت حيطة عبارة معبر وكان كثيرا ما يحدث المريدين بما يرونه أثناء الذكر والمراقبة من التجليات والاحوال والخواطر قبل أن يقصوا عليه منها شيئاً ويوقفهم على غثها وثمنيها ويحثهم علي رفع الهمة وان لايرضوا بشيء دون الله عز وجل هذا وله مناقب لاتحصى . وفضائل لاتستقصى. أدام الله علينا متواصل وابل أمداداته. وجمعنا به مع الذين أنعم الله عليهم من أهل خصوصياته . توفي قدس الله سره الاقدس سنة ثمان وثلاثمائة وألف ببيارة و بها ضريحه المبارك مهبط الانوار ومورد الرحمات ورثاه الادباء بقصائد فارسية وعربية ولولا خشية الاطالة لاوردنا لك بعضها.

مقالات ذات صلة مفيدة