الكمالات الثلاثة والتجلي ودائرة النبوة
وأما بيان الكمالات الثلاثة: كمال النبوة والرسالة وأولو العزم.
فلما تفضل وترحم الشيخ إلى العنصر الترابي للسالك ورد على لطائفه فيض في كمال النبوة التي هي عبارة عن التجلي الذاتي الدائمي، ومعارف هذا المقام فقدان جميع المعارف. ويصير هنا إنكار حالات الباطن واللالونية واللاكيفية.
وههنا تظهر القوة في الإيمانيات والعقائد، وينقلب الاستدلال إلى البديهي، ومعارف هذا المقام شرائع الأنبياء عليهم السلام، وههنا يكون في نسبة الباطني والوسعة، بحيث تصير وسعة الولايات كلها من الولاية الصغرى والكبرى والعليا. لأشياء محضاً وضيقاً صرفاً في جنب تلك النسبة.
ويوجد في الولايات مناسبة: كل منها مع الأخرى صورة وحقيقية. وأما هنا فتفد تلك المناسبة، وههنا تحصل حقيقة الوصل ورؤية القصور، بحيث يرى نفسه أقبح من كافر الإفرنح.
وأما كل وصل كان قبل هذا فقد كان داخلاً في دائرة الوهم والخيال، وسراباً يحسبه طمآن الوصال ماء. ولم يكن هناك بيده شيء غير الحسرة والندامة.
ولما انكشف هذا المقام حين توجه الشيخ تيسر له معاملة شبيهة بالرؤية، وإن لم يكن هي الرؤية الموعودة في الآخرة بالنسية إلى ما في الولايات من المشاهدات.
وكما أن الرؤية الآخروية مخصوصة بعالم الخلق فكذلك المعاملة هنا نصيب عالم الخلق.
وكما يصير لطائف عالم الأمر هنا لا شيئاً محضاً كذلك لطيفة النفس ولطائف العناصر كلها تصير هنا لا شيئاً.
وهذه المعاملة مخصوصة بالعنصر الترابي. وان كان للعناصر الأخرى نصيب من هذه الدولة، فتبعية هذا العنصر الترابي.
وههنا أحكام الشرائع وأخبار الغيب من وجود الحق وصفاته تعالى. ومعاملة القبر والحشر وما فيه، والجنة والنار وغير ذلك مما أخبر به المخبر الصادق كلها يصير بديهياً وعين اليقين، فان هنا يكون وجود الحق كالمرأة وتكون الاشياء كالصور المرئية في المرأة التي وجود الصور فيها وهمي وخيالي: ووجودها واقعي. لكن في المرآة الصورية تشاهد أولاً الصورة: ثم المرآة، وأما ههنا فبخلاف ذلك. لأن وجود المرآة ههنا مرئي في أول النظر، ووجود الأشياء بعد التوقيت.
ولهذا يصير وجود الحق سبحانه بديهيا، ووجود الأشياء نظرياً يحصل بعد دقة النظر.
إسمع معاملة الحجب، وهي مع علو هذا المقام وبساطته ولا لونيته، إذا حصل الانكشاف التام في هذا المقام, اعلم أنه كان مقابلاً للنظر، وازداد حيرة واعجب منه أنها لا تفيد أصلاً لحصول هذا المقام إذكار الصوفية المعمولة لهم.
وأما تلاوة القرآن مع التراتيل وأداء الصلاة بآدابها.
وأما الاذكار الثابتة في الحديث فكلها تفيد الترقي في هذا المقام وكذا الاشتغال بعلم الحديث والاتباع بالسنة يقوي وينوّر هذا المقام. وههنا تنكشف حقيقة سر: قاب قوسين أو أدنى.
التجلي الذاتي ودائرة الكمالات
إعلم أنهم قرروا التجلّي الذاتي الدائمي على ثلاثة مراتب:
المرتبة الأولى: كمال النبوة وفيها يعملون مراقبة ذات هي منشأ كمال كمال النبوة.
المرتبة الثانية: كمال الرسالة وههنا يعملون مراقبة ذات هي منشأ كمالات الرسالة، ويرد فيض هذا المقام على الهيئة الوحدانية الحاصلة للسالك في هذا المقام.
والهيئة الوحدانية عبارة عن مجموع عالم الأمر وعالم الخلق، فإنه تحصل لكل منهما بعد التصفية والتذكية هيئة أخرى:
مثلاً: إذا أراد شخص أن يركب معجوناً من أدوية مختلفة التأثيرات فإنه يدق ويسحق كل واحد منها فرادى ثم يجمعها في قوام الفند والمسل فيحصل للأدوية المذكورة هيثة أخرى، وينشأ لها إسم المعجون.
كذلك اللطائف العشر يحصل لها هيئة أخرى، ويقع لها عروجات كثيرة في هذا المقام. وفيما بعده من الفوقانية وأنواره ووسعته ولا لونيته أكثر من المقام السابق. ونسبة كل مقام سابق بالنسية إليه كاللب مع القشر.
المرتبة الثالثة: التي هي عبارة عن كمالات أولي العزم، فورد على هيئة الوحدانية. وفيض هذا المقام في كمال العلو وكثرة الأنوار. وههنا يعملون مراقبة ذات هي منشأ كمالات أولي العزم، وفي هذا المقام تنكشف أسرار المقطعات القرآنية والمتشابهات، وههنا يجعلون بعض الأكابر صاحب سر يقع بين المحب والحبوب يعطونه بواسطة الاتباع لرسول الله عليه السلام نصيباً من الفضيلة الخاصة بذلك الجناب.
واعلم أنه إذا وقعت معاملة الباطن على الهيئة الوحدانية يعني أن كمالات الرسالة تكون الترقي الباطن بمحض الفضل، ولا يبقى للعقل ولا للعمل دخل في ذلك أصلا.
وإن كان الترقي في جميع المقامات بالفضل الإلهي لا بالعمل، لكان لا كانت الأعمال هناك كالأسباب. أما في هذا المقام فلا دخل لتلك الأسباب.
وإن للذكر في إزالة الكدور البشرية أثر تام. لكنه لترقي هذه المقامات لا ينتج .
مثلاً: لو اشتغل بذكر إسم الذات أو النفي والإثبات أو التهليل اللساني يرى أن هذه الأذكار لا تصل إلى هذا المقام بل تقف في الطريق إلا إذا ضِمّ إلى التهليل اللساني لفظ محمد رسول الله والصلاة عليه (صلعم).
[ويحصل قوة في هذه المقامات الفوقانية بل يفهم الوسعة بلفظ محمد رسول الله أزيد من التهليل.
ويحصل ترقيات هذه المقامات بواسطة القرآن الجيد وكل مرتبة يصل إليها السالك فبواسطة الكلام الجيد
الحقائق الالهية وحقيقة الكعبة
وأما الحقائق الالهية فاعلم أنه بعد كمالات أولي العزم يقع السلوك إلى طرقين، وذلك في اختيار المرشد، فأيهما شاء يسلك الطالب إليه:
أحدهما طرف الحقائق الالهية وهي عبارة عن حقيقة الكعبة وحقيقة القرآن وحقيقة الصلاة.
وثانيهما طرف الحقائق الأنبيائية، وتلك عبارة عن الحقيقة الإبراهيمية والحقيقة الموسوية، والحقيقة المحمدية.
ولما توجه إليه المرشد في حقيقة الكعبة شاهد في هذا المقام عظمة الحق وكبرياؤه، واستولت هيبته على الباطن. وههنا يعملون مراقبة ذات هو مسجود للممكنات.
وكم يوم حصل الفناء والبقاء في هذه المرتبة المقدسة فوجد إياه متصفاً بهذا الشأن.
وعلم توجه الممكنات إلى جانبه وإن كان في الكمالات حصول لا لونيات كثيرة ليست في هذه المقامات بهذا القدر.
ولكن علو النسبة الباطنة ووسعتها في هذه المقامات زيادة على الزيادة. واللالونية في حقائق الأنبياء مع هذا العلو والوسعة آمل منها في الحقائق الالهية. وسر ذلك أن السالك إذا حصل له الفناء والبقاء في مرتبة ذات البحث وتخلّق بأخلاق تلك المرتية، فلا جرم لونيات تلك المقامات فإنه يعلم أن نسبة الكمالات مع النسب الفوقانية، من نس واحد.
ولو مناسبة صورية وسبب تمييز اللالونية في نسبة الكمالات أن السالك كانت قوة إدراكه بقدر ما حصل له قبل في الولايات بسبب الفناء والبقاء في مرتبة الصفات والشؤونات.
ولهذا يعسر حين إدراك مرتبة الذات، فإن الكمالات الولايات مناسبة بينهما أصلاً ولو مناسبة صورية.
وأما ما قاله بعض الأكابر من أن مرتبة الولاية ظل مرتبة النبوة فغير ثابت، بل لا مناسبة بينهما في أمر ما أصلا، وأما مرتبة الكمالات فلها مناسبة مع هذه الحقائق. بل قال المحققون إن الحقائق بالنسبة إلى الكمالات مثل الأمواج، ومعنى هذا أن الكمالات لا كانت فوقانية مواطن التجليات الذاتية الدائمي، فلا جرم. فكل نسبة إذا كانت فوقانية لا تخرج عن مرتية الذات. فاطلاق لفظ الأمواج عليها سديد. فتظهر في نسبة الحقائق أشياء لا تظهر في نسبة الكمالات.
مثلاً: يظهر في حقيقة الكعبة المعظمة عظمة وكبرياء ومسجودية للممكنات على نحو يعجز العقل عن إدراك ذلك.
حقيقة القرآن ومرتبة الذات والأسرار
حتى أن حصول هذه المراتب بدون توجه المرشد متعذر. ولما توجه المرشد إليه في حقيقة القرآن المجيد عاين أسراراً في سرادقات العظمة والكبرياء، ورأى في عالم المثال حقيقة الكعبة وكيفيتها حتى عرّج منها ودخل حقيقة القرآن. وهي عبارة عن مبدأ وسعة حضرة الذات، ويكون شروع وسعة حضرة الذات من هذا المقام، ويظهر هنا أحوال شبيهة بالوسعة وإلا فاطلاق لفظ الوسعة هنا من ضيق ميدان العبارة.
وفي هذا المقام تظهر بواطن كلام الله وفيه وجدت كل حرف من حروف القرآن المجيد بحر لا نهاية له موصلاً إلى الكعبة المقصودة. وهنا نكتة أعجب أن في قراءة القرآن مع هذه القصص المختلفة والأوامر المتغايرة والنواهي المتباينة تظهر أشياء وأسرار وأنوار، وتلوح قدرته تعالى وحكمته البالغة في ذكر الله تعالى. لقصص وحكايات الأنبياء عليهم السلام لأجل تعليم العوام وتفهيمه لهم وإرشاد الناس إلى أحكام الشريعة لهدايتهم.
ومع هذا يظهر في بطون تلك الحروف كيفيات عجيبة ومعاملات غريبة تزيد حيرة على حيرة. ويكون في كل حرف ظهور بشأن خاص يعاد به قلوب أهل الاختصاص. وفي وقت قراته القرآن يكون لسان القارئ كالشجرة الموسوية، ويكون القالب كله لساناً وعلو النسبة هنا. بحيث أن نسبة الكمالات مع علوها ووسعتها، بل نسية حقيقة الكعبة المعظمة مع عظمتها وكبريائها تشاهد تحته، وهنا يعملون مراقبة مبدأ وسعة لأمثلية حضرة الذات، ومورد فيض هذا المقام هي الهيئة الوحدانية.
حقيقة الصلاة ومقامها وأسرارها
وبعد هذا توجه المرشد في دائرة حقيقة الصلاة، فشاهد هنا كمال وسعة لامثيله حضرة الذات، وأي شيء أظهر من الوسعة والعلو في هذا المقام الذي أحد جزئيه حقيقة للقرآن والأخر حقيقة الكعبة، وههنا يعملون مراقبة كمال وسعة لأمثلية حضرة الذات، وإذا وجد السالك خطاً من هذه الحقيقة الطيبة يخرج حين أداء الصلاة من هذا النشأ الدنيوي، ويدخل في النشأ الأخروي، ويحصل له حالة شبيهة بالرؤية الأخروية.
[وإذا رفع يديه للتحريمة يغسلهما من الكونين، وينبذ وراء ظهره كلتا الدارين؛ ويقف قائلاً الله أكبر في حضرة الملك الجليل؛ ويرى كله للمحبوب الحقيقي .
[وحين القرأة يكون موجوداً بوجود موهوب لايق بتلك المرتبة المقدسة، ويصير متكلما مع حضرة الحق ومخاطبا عن ذلك الخباب المقدّس، ويكون لسانه كالشجرة الموسوية كما سبق في حقيقة القرآن.
وإذا ذهب إلى الركوع وأتى بغاية الخشوع يمتاز بمزيد القرب، ويتشرف حين قرأته التسبيح بكيفية أخرى، فلا جرم يحمد على هذه النعمة رافعاً رأسه من الركوع، ويقف أيضاً في حضرة الحق.
والسر في أداء القومة أنه إذا أراد السجود فالذهاب من القيام إلى السجود أبلغ من مزيد التذلل والانكسار
و أي شيء أبين من الذوق الذي يحصل حين أداء السجود، حيث يشير قوله تعالى، واسجد واقترب. وقوله عليه السلام: الساجد يسجد على قدمي الله، ولما توهم في هذا القرب – العنقاء اصطيدت - كبر رافعاً رأسه من السجدة، وقوله الله أكبر أي أكبر من أن أعبده حق عبادته، وأقرب إليه حق قربه، وسؤال المغفرة في الجلسة، تشأ من جريمة ذلك التوهم، ثم يسجد ثانية لطلب المزيد من القرب، ثم يقعد للتشهد ويأتي بشلك الخباب الإلهي وتحياته على إحسانه بهذا القرب، والإتيان بكلمتي الشهادة لأن هذه الدولة القريبة بدون التصديق والإقرار بالتوحيد والرسالة محال وقرأة الصلاة على النبي عليه السلام لأن حصول هذه النعمة بواسطة تبعيته عليه السلام.
واختار الصلاة الإبراهيمية لأن في الصلاة خلوة مع المحبوب الحقيقي، ومنادمته مخصوصة. ومصاحبة منصوبة عن مقام الخلة التي هي منصب الخليل عليه السلام فكأنه يطلب ببركة هذه الصلاة الإبراهيمية تلك المنادمة فيكون نديم الحق فافهم. [ واعلم أنه أدى الصلاة مع سننها وآدابها على ما ينبغي مثلا: من آداب أن ينظر المصلي إلى موضوع مجوده في القيام وإلى قدميه في الركوع، وإلى نفسه في السجود، وإلى فخذيه في القعود، وكذا سائر الآداب إذا روعيت جميعاً فلا بد وأن يظهر حقيقة الصلاة.
وأما ما يفعلونه في القيام غمض العين مع التوجه لأجل الحضور والجمعية فلا بد وأن يحصل حضور اللطائف.
لكن لا حاجة لأجل ظهور النسب الفوقانية بغمض العين، بل الحضور هنا كله للقالب، وحضور القالب إنما يحصل مع رعاية الأدب الموافقة للسنة، وغمض العين في القيام بدعة، وإن جرزوه لأجل الحضور.
وكذلك في استماع القرآن المجيد إن استمع من شخص حسن الصوت يظهر نسبة الولايات وأن استمع من شخص مجوّد يظهر نسب الحقائق الفوقانية فإن الصوت الحسن له مناسبة مع القلب، فلا جرم يظهر النسبة، وإذا قرئ القرآن بصحة الألفاظ وأداء الحروف من مخارجها والترتيل ولو بغير صوت حسن فلا بد من ظهور الحقائق.